ماذا كان عمر بن الخطاب في الجاهلية؟!
لو لم يأتِ الإسلام لما بلغنا أي شيء عن عمر ولما عرفنا من هو عمر رضي الله عنه، لكن لما أسلم وغيره الإيمان، ماذا أصبح؟!
نأخذ مثالاً من حياة عمر فيما يتعلق بموضوع الجهاد والتخطيط العسكري، حيث أرسل عمر رضي الله عنه الجيوش لمحاربة الفرس، ولاحظ أن المسلمين لم يقولوا نبدأ بالفرس ونترك الروم، أو نبدأ بالروم ونترك الفرس -مع أنهما أقوى دولتين تتحكمان في العالم- أو كيف نحارب تلك الدولتين في وقت واحد وعددنا قليل؟!
نعم هذا صحيح، إلا أن العدة أقل بكثير!! وكل ما يمكن أن يقال بالنظرة المادية وفي التخطيط المادي العسكري يمكن أن يقال هنا، إلا أن هناك إسلاماً يحارب كفراً، وهذا هو الميزان الذي يرجح دائماً في أية معركة وهو أن الإيمان ينتصر على الكفر بإذن الله!!
وكان العرب قبل الإسلام لا يطمحون ولا يطمعون، بل ولا يتخيلون أنهم يحاربون كسرى وحده أو هرقل وحده، فضلاً عن أن يحاربوا الاثنين معاً.
وأذكر مثالاً واحداً وهو أن كسرى ملك الفرس وملك العجم الذي كان يحكم شرق الدنيا في تلك الفترة كانت له بضائع وقوافل مشهورة عند العرب، وتأتي في أسواق العرب، حيث تنطلق وتخرج من المدائن -العاصمة ومقر المُلك- ثم تأتي الحيرة، ثم تنـزل فتجتاز جزيرة العرب كلها، وتمر في أسواق العرب جميعاً، العرب الذي ينهب بعضهم بعضاً من أجل شاةٍ، لكن ما كان أحد يجرؤ أن يقترب من قافلة كسرى، لماذا؟
لأنه كسرى!! ومن الذي يتجرأ عليه؟
أمة مرعوبة، لا يمكن أن يتجرأ أحد على أكبر وأعظم دولة في العالم.
فلما جاء الإسلام، وانطلقت الجيوش إلى هناك، جمع عمر رضي الله عنه الجيوش وأرسلهم، وأخذ يفكر من يختار لحرب الفرس، فوفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سعد بن أبي وقاص، القائد المشهور، وماذا كان سعد في الجاهلية؟!
وماذا كان قبل الإيمان؟!
لم يكن شيئاًَ مذكوراً.
أرسل سعداً وهو يعلم أن هذه المعركة هي أعظم معركة في تاريخ الفتوحات الإسلامية التي خاضها المسلمون مع الفرس، فماذا صنع عمر؟
قال له عمر رضي الله عنه -وعمر لم يكن لديه خرائط للمناطق، ولم يكن لديه وسائل للاتصال المباشر-: إذا نزلت بأرضٍ، فأرسل السرايا، واكتب لي عنها -أي: يكتب له عن طبيعة الأرض- وأنا أوافيك كيف تفعل، فعندما وصلوا إلى أول العراق، كتبوا له بأن الأرض كذا وكذا وكذا.
فجاء الرد من المدينة: تقدموا عن المدر واجعلوا المزارع من ورائكم، فإن نصركم الله تعالى تقدمتم، وإن كانت الأخرى ترجعون إلى المدر وإلى المزارع وإلى المياه، هذا عمر الذي كان في الجاهلية أعرابياً، ولا يدري ولا يعرف ما هي الخطط، ولا يعرف إلا الكر والفر، فقد كان هذا الذي تعرفه العرب في تاريخها العسكري فقط، لكن الإيمان غيَّر عمر، فلم يعد عمر ذلك الجاهلي، بل أصبح ذلك الرجل الذي يدير أعظم دولة في عصره بأعظم وأفضل إدارة، وليست القضية هي عسكرية عمر كما يقول البعض، لا، بل القضية هي قضية إيمان يفجر العبقريات، لو أتيت إلى طفل صغير عمره خمس سنوات بالإيمان، لحفظ القرآن، ولعمل الأعاجيب، ولأصبح خطيباً أو عالماً وهو دون العشرين؛ كما كان علماء السلف الصالح.
إذاً: السر هو في الإيمان الذي يفجر الطاقات، وليس مجرد العبقرية التي في الأشخاص.
وكتب الله تعالى النصر العظيم في القادسية، وكان عمر رضي الله عنه يخرج إلى ظهر المدينة كل يوم، ويتحرق ويتألم منتظراً الأخبار، لأنها معركة حاسمة.
بل إن أكثر المسلمين كانوا يختارون قتال الروم، ولا يختارون قتال الفرس؛ لأن قتال الفرس كان أشد، فكانوا يريدون أن يذهبوا إلى مصر والشام ولا يريدون فارس.
وكان عمر رضي الله عنه يخاف عليهم خوفاً شديداً حتى قال: [[وددت لو أن بيني وبين فارس بحراً فلا يصلون إلينا ولا نصل إليهم]] فلما كتب الله النصر، أرسل سعد رسولاً من عنده، وذهب يحث الناقة ويطوي القفار؛ ليبشر المسلمين بالنصر المبين، ووصل إلى قرب المدينة وإذا بهذا الرجل -عمر- جالس، يتحرق ويتألم وينتظر! فقال: من أنت؟
فقال: دعني أريد أن أبشر المسلمين وأن أبشر أمير المؤمنين، فيقول: من أنت وماذا تريد؟
فقال: الحمد لله رب العالمين، نصر الله المسلمين، وأريد أن أبشر أمير المؤمنين، ويحث الناقة لتسرع، وعمر رضي الله عنه يسرع على رجليه ولا يلحقه، ولم يقل له: أنا أمير المؤمنين، حتى دخلا إلى المدينة، وكانت فرحة الانتصار تحث رجلي عمر رضي الله عنه، وهو يسابق الناقة حتى دخلا المدينة، فاستقبله الناس، وقالوا: أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين.
فقال الرجل: رحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا قلت لي أنك أمير المؤمنين فأحملك وأبشرك.
ثم أخبره بما حدث من النصر المبين.
وهذا النصر بعد القادسية، أعقبه أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دخل إلى المدائن! العاصمة التي لا نظير في الدنيا لها في تلك الأيام!!
وكانت علامات الترقي والرتب العسكرية عند الفرس باللآلئ النادرة الثمينة!! فمن كان في رأسه لؤلؤة قيمتها مائة ألف، فهو قائد كبير مثل رستم أو ماهان، وما كان قيمتها عشرة آلاف دينار فهو أقل وهكذا، أي: كانت الرتب بالدرر الغالية جداً، فكيف تتصورون عاصمة ملك هؤلاء الناس؟!
لما خرج كسرى من المدائن لم يخرج معه إلا ألف طباخ وسائس للصقور والحيوانات!! وكان يبكي ويتحسر أنه خرج من عاصمته ودخلها المسلمون، ولم يأخذ معه إلا ألفاً فقط! فكم كان عنده من الحواشي ومن الملك ومن الخدم ومن الأبهة في البيت الأبيض؟!
كذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك كان اسمه البيت الأبيض، وتعجب المسلمون ودهشوا مما رأوا فيه من اللآلئ ومن اليواقيت ومن أصناف الحضارة المدهشة التي لم يحلموا أن يروها قط؛ فلما فتحوها ودخل سعد رضي الله عنه القصر سجد سجود الشكر وأخذ يقرأ قوله تعالى: ((كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ))[الدخان:25-29].
فتركوا هذا النعيم، وتركوا هذه البهجة، وهذا الملك لما مقتهم الله عز وجل وهانوا عليه: ((وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ))[الحج:18]، ثم صلى لله شكراً على هذا النصر المبين.